الخميس 05 ديسمبر 2024

رحلة الأثام للكاتبة منال سالم

انت في الصفحة 8 من 79 صفحات

موقع أيام نيوز


نحو الرف الخشبي المعلق أسفل دولاب المطبخ
ناوليني الملح من عندك.
أحضرته إليها قائلة
أهوو يامه.
تابع والدتها الحديث إليها فأضافت
عاوزين نجيب ورقة فلفل لأحسن الشوية اللي فاضلين عندي خلصوا.
أكملت عليها مستعيدة في ذهنها ما أمرتها بإحضاره سابقا من محل البقالة الكائن بالمنطقة
ماشي مع الطحينة وصابون الغسيل.
وإزازة خل.

طيب.
استمرت كلتاهما في العمل بداخل المطبخ إلى أن تحدثت فردوس من جديد
تعرفي يامه لو كانت تهاني هنا مكانتش وافقت على اللي حصل عند خالتي...
سلطت كامل نظراتها على أمها وهي تتم جملتها
كان زمانها عقدت الدنيا.
جاء رد عقيلة مهموما إلى حد ما
ربنا يهديها لحالها.
لم تعر مشاعر والدتها المزعوجة لغيابها المؤثر فيها اهتماما وواصلت القول
هي أصلها باصة في العلالي عاوزة حد ابن ذوات.
رمقتها عقيلة بهذه النظرة الصارمة قبل
مسيرها ترجع لعقلها ادعيلها ربنا يرجعها لينا بالسلامة.
تجاهلت ما قالته وسألتها بوجه متلهف
أومال احنا هنعرف الرد إمتى من خالتي
عاتبتها في صبر نافد
تاني!!
مدت يديها لتمسك بها من ذراعها كما لو كانت تتعلق به وألحت عليها بتوسل
عشان خاطري يامه ما تجربي تسألي كده خالتي.
سحبت ذراعها من أسفل قبضتيها قائلة بجمود
يا خبر بفلوس بكرة يبقى ببلاش.
أطلقت زفرة طويلة من رئتيها محملة بكل الرجاوات والآمال لتردد بعدها
هون يا رب وقرب البعيد.
استفاقت بعد برهة من حالة الوهن التي سيطرت عليها لتصبح أكثر وعيا واتزانا وقدرة على السير بمفردها. ابتسمت تهاني في خجل وهي ترى مدى الاهتمام والرعاية من قبل ذلك الطبيب الوسيم الذي لم يتردد للحظة في تقديم يد العون لها عاملها كأنها شخصية استثنائية وغير عادية على عكس ما توقعت أو دار بمخيلتها من معاملة روتينية فاترة. لن تنكر أن التوقير والاحترام الزائدين من جميع من قابلهما في طريقهما إلى أن استقرت بهذه الغرفة الجيدة أشعرتها بأهميته الكبيرة هنا وبمدى هيمنته ورغم أنها لم تعرف بعد عنه شيئا سوى اسمه وطبيعة مهنته بداخل المشفى إلا أن هذا القدر غير الكافي من المعلومات جعلها في حالة من الفضول لمعرفة المزيد عنه قاومت رغبتها تلك ريثما تجد الفرصة المناسبة لتقصي أمره دون إثارة الريبة فالوقت أمامها متاح ووافر.
مرة أخرى اختلست النظرات
ناحيته أثناء انشغاله بتدوين شيء ما على اللوح المعدني المعلق على طرف فراشها أمعنت التدقيق والتفرس في ملامحه وقسماته وهيئته البدنية ومظهره الخارجي الأنيق كأنما تريد أن تحفر معالمه في ذاكرته لدهشتها! وجدت فيه هالة غريبة تستحث دواخلها على الانجذاب إليه والإعجاب بشخصه الغامض فشاب مثله وصل إلى هذا المركز الرفيع في هذا المشفى المميز يعني ببساطة أنه ليس بشخص عادي بل شخصية هامة ذات نفوذ وتأثير. رفع مهاب رأسه فجأة لينظر ناحيتها فأمسك بها وهي تتأمله مليا مما دفعها لخفض ناظريها في حرج كبير. ابتسم قليلا وسألها
حاسة إنك أحسن
شعرت باندفاع الډماء الفائرة إلى وجنتيها لتبث فيهما سخونة كاشفة لأمرها قامت تهاني بتجلية أحبال صوتها لترد برعشة خفيفة ما زالت ناجمة عن شعورها بالحرج
أيوه .. الحمد لله.
أوصاها وهو يستقيم واقفا ليثبت كل نظره عليها
حاولي تاخدي بالك من نفسك أكتر من كده محدش هينفعك لو وقعتي تاني وأكيد مش أنا اللي هفهمك الكلام ده يا دكتورة.
رمشت بعينيها قائلة وهذه البسمة الخجلى تنير قسماتها
معاك حق.
تقدم تجاه جانبها من الفراش فتوترت وراحت تفرك أناملها معا في ربكة لا يمكن التشكيك فيها. من خبرته المحنكة في عالم النساء أدرك منذ الوهلة الأولى ومن طريقة تطلعها إليه أنها شخصية سهلة المنال طموحة لما لا تملك وتفتقر لتجارب عاطفية قوية وذات بصمة في حياتها فنجح ببساطة في فرض حضوره وتأثيره الطاغي عليها بأقل مجهود يذكر حقا كانت له طريقته ومهاراته المتفردة في سلب عقول النساء خاصة الساذجات منهن وهذا ما استثار نزعة الغرور لديه لذا تعمد إطالة مدة انشغاله في الكتابة تاركا لها كل الوقت لتملي عينيها منه مستمتعا بأول خطواته نحو مطاردة طريدة جديدة سهل الإيقاع بها في حبال آسره. وقف قبالتها وخاطبها وهو ينظر من علوه في عينيها مباشرة وبطريقة ساحرة شعرت بها تتخللها وتنفذ إليها بسهولة وتزيد من حالة الاضطراب بها
حمدلله على سلامتك.
لم تستطع مجاراته في النظر إليه وقالت متحاشية تحديقه الذي طال بها
شكرا ليك يا د. مهاب تعبتك معايا ده غير إني عطلتك وآ...
قاطعها هاتفا وهو يدس يده في جيب معطفه الطبي
ده واجبي أكون جمب المړيض في أي وقت.
اكتفت بمنحه ابتسامة صغيرة ناعمة بعد أن تشجعت لتنظر إليه فاستغل الفرصة وسألها بمكر
بس إزاي إنتي شغالة هنا ومصادفش إني أشوفك ولا مرة 
لم يكن سؤاله مجرد فضول عابر سيمضي بعد ذهابها في التو بل بدا اهتماما صريحا بشأنها لا لبس فيه ظلت أنظاره باقية عليها وهو يسألها
يعني تخصصك إيه
ابتلعت ريقها وأجابته بصوت كان أقرب للهمس
أنا مش خريجة طب بشړي.
نظر لها صامتا فتابعت موضحة
أنا اتخرجت من علوم وجاية هنا تبع البعثة المصرية تقدر حضرتك تقول دراسة وتدريب.
مط فمه في إعجاب قبل أن يتكلم
برافو هما هنا مش بياخدوا غير الأكفأ.
أحست بتناقص توترها مع أسلوبه السلس المرن في التحاور معها ناهيك عن مزجه بشيء من الودية والغزل المستتر مما استحث مشاعر الأنثى القابعة بداخلها لتنفض الغبار عنها وتتيقظ خاصة حين استأنف في وداعة
وأنا حظي حلو إني شوفت طالبة نجيبة زيك.
قالت وهي ترفرف بأهداب جفنيها
شكرا على ذوق حضرتك.
اشتم رائحة شوقها لسماع ما يزيد من شعورها بالإطراء فصار على النفس النهج قائلا
دي مش مجاملة المستشفى هنا مابيقبلش يشغل فيه إلا المهرة وبس.
بقيت محدقة في وجهه وهو لا يزال يخاطبها
وأظنها فرصة حلوة ليكي عشان تثبتي نفسك.
علقت بتلقائية
أنا بعمل اللي عليا.
انتفضت بجسدها كليا حين مد ذراعه فجأة نحوها ليزيح بيده
هذه الشعرة الملتصقة بجبينها هامسا
كده أحلى.
توترت وارتكبت وتملكها القلق رفعت يدها المرتعشة لتسوي مقدمة رأسها وسألته
هو مسموح إني أخرج
أجاب في الحال
أيوه.
هزت رأسها بخفة ثم أزاحت الغطاء الأبيض عنها لتخفض ساقيها باحثة عن حذائها لترتديه كم شعرت بالخجل حين رأت كيف يبدو مظهره في قدميها وضيعا رخيصا لا يليق بها! بلعت غصة مريرة في حلقها والتفتت للجانب عندما سألها مهاب مهتما
قوليلي في حد موجود يوصلك
نهضت واقفة وهي تجيبه
أنا هشوف مواصلة ترجعني السكن.
ثم تقدمت نحو الباب بعدما علقت حقيبتها على كتفها لكن مهاب في التو تحرك صوبها ليعترض طريقها ويستوقفها بجسده قائلا بصيغة شبه آمرة ويده مرفوعة قليلا في الهواء
أنا هوصلك في طريقي.
تمسكت برفضها قائلة
لا مايصحش كفاية إني عطلت حضرتك وضيعت وقتك.
أطلت من عينيه لمعة ماكرة أتبعها قوله المليء بالإصرار
أنا مصمم.
اعترضت بحرج
بس آ...
وضع هذه الابتسامة المرسومة بعناية على زاوية فمه قبل أن يقاطعها بهدوء لكنه يضم الحزم 
مش هاقبل بالرفض!
انصاعت صاغرة له وأطرقت رأسها حياء رغم أنها في أعماقها كانت تبتهج سعادة لكونها كأنثى أصبحت ذات تأثير وإن كان ما زال محدودا على صنف أمثاله من الرجال.
تعمدت أن تسير على مهل لتستطيل مدة مشيهما معا فتتمكن من الحديث معه أكثر وتستعلم منه عما لا تعرفه بعد. توقفت بجوار سيارته فراحت تتأملها بعينين منبهرتين فقد ابتاع الطراز الأحدث من هذا النوع شتت نظراتها عنها عندما تكلم أحدهم بصوت مرتفع ولافت من مسافة قريبة منهما
لا مش ممكن الدنيا فعلا زي ما بيقولوا صغيرة.
استدارت لتنظر تجاه صاحب الصوت المألوف فرأت ممدوح قبالتها يمد يده لمصافحتها وهو يسألها باسما
إزيك يا دكتورة تهاني
توترت للحظة واختطفت نظرة سريعة تجاه مهاب قبل أن ترد وهي تمد يدها تجاهه
أهلا بحضرتك يا دكتور ممدوح.
حل القليل من الوجوم المشوب بالضيق على قسمات وجه مهاب وتساءل باستغراب
إيه ده هو إنتو تعرفوا بعض
ضحك مستمتعا قبل أن يخبره بتلميح لئيم كان متأكدا أنه سيثير نزعته التملكية
طبعا دكتورة بالرقة دي صعب تتنسى.
رمشت بعينيها مرددة ببسمة مجاملة
شكرا لذوقك...
غام وجه مهاب وبدا وكأنه غير راض عما قيل فتوجست خيفة من إنهاء معرفته بها قبل أن تتوطد جيدا لكونه يظن أنها على علاقة بغيره لذا حاولت تفسير الموقف من تلقاء نفسها بقولها الموضح
هو احنا فعلا اتقابلنا صدفة في المطار لما كنت جاية على هنا.
مال ممدوح ناحيتها قليلا ليضيق عينيه معقبا في عبثية غير مريحة
وأنا شكلي هحب الصدف اللي دايما بتجمعنا ببعض.
صراع البقاء للأقوى لاح بينهما خاصة فيما يخص تأثيرهما على الصنف الناعم فأضاف مهاب هو الآخر مبتسما ابتسامة لا معنى لها
نسيت أقولك يا دكتورة تهاني ممدوح ده صاحبي من زمان عشرة عمر.
تحرك الأخير من موضعه ليقف مجاورا ل مهاب ضم كتفيه بذراعه وتبسم قائلا
طبعا احنا يعتبر أكتر من الإخوات ما بنفرقش بعض إلا قليل أوي وكل حاجة تقريبا بنعملها سوا.
أزاح مهاب ذراعه عنه وأعاد ضبط سترته وياقة قميصه ليستأنف ممدوح كلامه الموجه إلى تهاني متسائلا في فضول محير
بس إيه لم الشامي على المغربي يعني آخر مكان كنت أتوقع أشوفك فيه هنا.
استفاضت مجيبة
أنا تدريبي هنا في المستشفى ود. مهاب شافني تعبانة شوية فساعدني.
سدد ممدوح نظرة موحية ذات بعد مفهوم لرفيقه وهو يعقب
طول عمره بيحب عمل الخير وما يتأخرش عنه ... أبدا!!
لا يعرف إن كان يقصد بكلماته تلك مدحا أم ذما أم سخرية مبطنة لكن مهاب تجاوز عنها ليقول في شيء من الرسمية
بينا يا دكتورة عشان أوصلك ترتاحي.
في التو اعترض ممدوح
طريقهما ليستوقفهما قائلا بعبوس مصطنع
إيه ده هتمشي كده من غير ما نقوم معاها بواجب الضيافة إنت عاوزها تقول علينا يا مهاب بخلا
تفاجأت تهاني من اقتراحه لم تكن مستعدة للذهاب بهذه الهيئة لذا حاولت الاعتذار مرددة بحرج
لا مافيش داعي خالص أنا آ...
رفع سبابته أمام وجهها مقاطعا إياها بإصرار رغم لطافة نبرته
مش هاقبل بالرفض ده حتى زي ما بيقولوا عندنا في مصر يبقى بينا عيش وملح.
ثم خاطب مهاب مبتسما
عيب نكسف ضيفتنا.
نفخ في سأم وسأله
هتودينا فين يا ممدوح بما إنك الخبير هنا!
أجابه بعد صمت خفيف
في مطعم تحفة فاتح قريب من هنا الكل بيشكر فيه إيه رأيكم نجربه
مط فمه قليلا وعلق في شيء من التحدي
معنديش مانع بس الحساب عندك.
دون تفكير قبل بالعرض مردفا ونظراته كلها صوب ضيفتهما
وماله.. إكراما للدكتورة تهاني.
انحنت تنظر بعينين متأففتين لرفوف الثلاجة الفارغة ثم مدت يدها لتمسك بعلبة بلاستيكية انتزعت غطائها واشتمت ما بداخلها فأصيبت بالاشمئزاز وانقلبت معدتها شاعرة بالغثيان استقامت ابتهال واقفة بعدما أغلقت الباب لتمشي بالعلبة تجاه سلة القمامة أفرغت محتوياتها بداخلها ثم اتجهت نحو الحوض لتغسلها وهي تحادث نفسها بعفوية
عاوزين نشوفلنا أي بقالة قريبة مننا أنا عارفة بيسموها إيه..
وضعت العلبة جانبا بعد تنظيفها وهي لا تزال تتكلم بصوت مسموع
المهم نجيب

منها حاجات تنفع تتاكل بدل ما الواحد بيفضل على لحم بطنه كده بالساعات.
جففت كلتا يديها في جانبي قميص البيت الذي ترتديه
 

انت في الصفحة 8 من 79 صفحات